فصل: إذَا أَبَقَ الْعَبْدُ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَحِقَ بِالْمُسْلِمِينَ صَارَ حُرّا؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.قُدُومُ رَجُلَيْنِ مِنْ ثَقِيفٍ وَقَضَاءُ الدّيْنِ عَنْهُمَا:

وَقَدْ كَانَ أَبُو مَلِيحِ بْنُ عُرْوَةَ وَقَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ وَفْدِ ثَقِيفٍ حَيْنَ قُتِلَ عُرْوَةُ يُرِيدَانِ فِرَاقَ ثَقِيفٍ، وَأَنْ لَا يُجَامِعَاهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا، فَأَسْلَمَا، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَوَلّيَا مَنْ شِئْتُمَا قَالَا: نَتَوَلّى اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَخَالَكُمَا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فَقَالَا: وَخَالَنَا أَبَا سُفْيَانَ فَلَمّا أَسْلَمَ أَهْلُ الطّائِفِ، سَأَلَ أَبُو مَلِيحٍ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَقْضِيَ عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الطّاغِيَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَعَمْ فَقَالَ لَهُ قَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ: وَعَنْ الْأَسْوَدِ يَا رَسُولَ اللّهِ فَاقْضِهِ- وَعُرْوَةُ وَالْأَسْوَدُ أَخَوَانِ لِأَبٍ وَأُمّ- فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ الْأَسْوَدَ مَاتَ مُشْرِكًا فَقَالَ قَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ: يَا رَسُولَ اللّهِ لَكِنْ تَصِلُ مُسْلِمًا ذَا قَرَابَةٍ يَعْنِي نَفْسَهُ وَإِنّمَا الدّيْنُ فَأَمَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبَا سُفْيَانَ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ عُرْوَةَ وَالْأَسْوَدِ مِنْ مَالِ الطّاغِيَةِ، فَفَعَلَ. وَكَانَ كِتَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِي كَتَبَ لَهُمْ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ النّبِيّ رَسُولِ اللّهِ إلَى الْمُؤْمِنِينَ، إنّ عِضَاهَ وَجّ وَصَيْدَهُ حَرَامٌ لَا يُعْضَدُ مَنْ وُجِدَ يَصْنَعُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَإِنّهُ يُجْلَدُ وَتُنْزَعُ ثِيَابُهُ فَإِنْ تَعَدّى ذَلِكَ فَإِنّهُ يُؤْخَذُ فَيُبْلَغُ بِهِ إلَى النّبِيّ مُحَمّدٍ وَإِنّ هَذَا أَمْرُ النّبِيّ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَكَتَبَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ بِأَمْرِ الرّسُولِ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ فَلَا يَتَعَدّاهُ أَحَدٌ، فَيَظْلِمَ نَفْسَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ. فَهَذِهِ قِصّةُ ثَقِيفٍ مِنْ أَوّلِهَا إلَى آخِرِهَا، سُقْنَاهَا كَمَا هِيَ وَإِنْ تَخَلّلَ بَيْنَ غَزْوِهَا وَإِسْلَامِهَا غَزَاةُ تَبُوكَ وَغَيْرُهَا، لَكِنْ آثَرْنَا أَنْ لَا نَقْطَعَ قِصّتَهُمْ وَأَنْ يَنْتَظِمَ أَوّلُهَا بِآخِرِهَا لِيَقَعَ الْكَلَامُ عَلَى فِقْهِ هَذِهِ الْقِصّةِ وَأَحْكَامِهَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ.

.جَوَازُ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ:

فَنَقُولُ فِيهَا مِنْ الْفِقْهِ جَوَازُ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَنَسْخُ تَحْرِيمِ ذَلِكَ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكّةَ فِي أَوَاخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ بَعْدَ مُضِيّ ثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً مِنْهُ وَالدّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ حَدّثَنَا إسْمَاعِيلُ عَنْ خَالِدٍ الْحَذّاءِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ عَنْ شَدّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنّهُ مَرّ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَمَنَ الْفَتْحِ عَلَى رَجُلٍ يَحْتَجِمُ بِالْبَقِيعِ لِثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدَيّ فَقَالَ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ وَهَذَا أَصَحّ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ إنّهُ خَرَجَ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ إنّ اللّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ وَأَقَامَ بِمَكّةَ تِسْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً يَقْصُرُ الصّلَاةَ ثُمّ خَرَجَ إلَى هَوَازِنَ، فَقَاتَلَهُمْ وَفَرَغَ مِنْهُمْ ثُمّ قَصَدَ الطّائِفَ، فَحَاصَرَهُمْ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً فِي قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ وَثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً فِي قَوْلِ ابْنِ سَعْدٍ، وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً فِي قَوْلِ مَكْحُولٍ. فَإِذَا تَأَمّلْت ذَلِكَ عَلِمْت أَنّ بَعْضَ مُدّةِ الْحِصَارِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَلَابُدّ وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ لَمْ يَبْتَدِئْ الْقِتَالَ إلّا فِي شَوّالٍ فَلَمّا شَرَعَ فِيهِ لَمْ يَقْطَعْهُ لِلشّهْرِ الْحَرَامِ وَلَكِنْ مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ابْتَدَأَ قِتَالًا فِي شَهْرٍ حَرَامٍ وَفُرّقَ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالِاسْتِدَامَةِ.

.فَصْلٌ:

وَمِنْهَا: جَوَازُ غَزْوِ الرّجُلِ وَأَهْلُهُ مَعَهُ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ مَعَهُ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ أُمّ سَلَمَةَ وَزَيْنَبُ. وَمِنْهَا: جَوَازُ نَصْبِ الْمَنْجَنِيقِ عَلَى الْكُفّارِ وَرَمْيِهِمْ بِهِ وَإِنْ أَفْضَى إلَى قَتْلِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنْ النّسَاءِ وَالذّرّيّةِ. وَمِنْهَا: جَوَازُ قَطْعِ شَجَرِ الْكُفّارِ إذَا كَانَ ذَلِكَ يُضْعِفُهُمْ وَيَغِيظُهُمْ وَهُوَ أَنْكَى فِيهِمْ.

.إذَا أَبَقَ الْعَبْدُ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَحِقَ بِالْمُسْلِمِينَ صَارَ حُرّا؟

وَمِنْهَا: أَنّ الْعَبْدَ إذَا أَبَقَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَلَحِقَ بِالْمُسْلِمِينَ صَارَ حُرّا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ الْحَجّاجِ عَنْ مِقْسَمٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُعْتِقُ الْعَبِيدَ إذَا جَاءُوا قَبْلَ مَوَالِيهِمْ وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ أَيْضًا، قَالَ قَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْعَبْدِ وَسَيّدِهِ قَضَى أَنّ الْعَبْدَ إذَا خَرَجَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ سَيّدِهِ أَنّهُ حُرّ فَإِنْ خَرَجَ سَيّدُهُ بَعْدَهُ لَمْ يُرَدّ عَلَيْهِ وَقَضَى أَنّ السّيّدَ إذَا خَرَجَ قَبْلَ الْعَبْدِ ثُمّ خَرَجَ الْعَبْدُ رُدّ عَلَى سَيّدِهِ. وَعَنْ الشّعْبِيّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ، قَالَ سَأَلْنَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَرُدّ عَلَيْنَا أَبَا بَكْرَةَ وَكَانَ عَبْدًا لَنَا أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ مُحَاصِرٌ ثَقِيفًا، فَأَسْلَمَ فَأَبَى أَنْ يَرُدّهُ عَلَيْنَا، فَقَالَ هُوَ طَلِيقُ اللّهِ، ثُمّ طَلِيقُ رَسُولِهِ فَلَمْ يَرُدّهُ عَلَيْنَا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهَذَا قَوْلُ كُلّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.

.فَصْلٌ:

وَمِنْهَا: أَنّ الْإِمَامَ إذَا حَاصَرَ حِصْنًا، وَلَمْ يُفْتَحْ عَلَيْهِ وَرَأَى مَصْلَحَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي الرّحِيلِ عَنْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ مُصَابَرَتُهُ وَجَازَ لَهُ تَرْكُ مُصَابَرَتِهِ وَإِنّمَا تَلْزَمُ الْمُصَابَرَةُ إذَا كَانَ فِيهَا مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى مَفْسَدَتِهَا.

.فَصْلٌ:

وَمِنْهَا: أَنّهُ أَحْرَمَ مِنْ الْجِعِرّانَةِ بِعُمْرَةٍ وَكَانَ دَاخِلًا إلَى مَكّةَ، وَهَذِهِ هِيَ السّنّةُ لِمَنْ دَخَلَهَا مِنْ طَرِيقِ الطّائِفِ وَمَا يَلِيهِ وَأَمّا مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِمّنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ مَكّةَ إلَى الْجِعِرّانَةِ لِيُحْرِمَ مِنْهَا بِعُمْرَةٍ ثُمّ يَرْجِعُ إلَيْهَا، فَهَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الْبَتّةَ وَلَا اسْتَحَبّهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَإِنّمَا يَفْعَلُهُ عَوَامّ النّاسِ زَعَمُوا أَنّهُ اقْتِدَاءٌ بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَغَلِطُوا، فَإِنّهُ إنّمَا أَحْرَمَ مِنْهَا دَاخِلًا إلَى مَكّةَ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا إلَى الْجِعِرّانَةِ لِيُحْرِمَ مِنْهَا، فَهَذَا لَوْنٌ وَسُنّتُهُ لَوْنٌ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ.

.فصل اسْتِجَابَةُ دُعَائِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِإِسْلَامِ ثَقِيفٍ:

وَمِنْهَا: اسْتِجَابَةُ اللّهِ لِرَسُولِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دُعَاءَهُ لِثَقِيفٍ أَنْ يَهْدِيَهُمْ وَيَأْتِيَ بِهِمْ وَقَدْ أَرْسَلَهُ إلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ وَمَعَ هَذَا كُلّهِ فَدَعَا لَهُمْ وَلَمْ يَدْعُ عَلَيْهِمْ وَهَذَا مِنْ كَمَالِ رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَنَصِيحَتِهِ صَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.

.فصل كَمَالُ مَحَبّةِ الصّدّيقِ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ:

وَمِنْهَا: كَمَالُ مَحَبّةِ الصّدّيقِ لَهُ وَقَصْدُهُ التّقَرّبَ إلَيْهِ وَالتّحَبّبَ بِكُلّ مَا يُمْكِنُهُ وَلِهَذَا نَاشَدَ الْمُغِيرَةَ أَنْ يَدَعَهُ هُوَ يُبَشّرُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقُدُومِ وَفْدِ الطّائِفِ، لِيَكُونَ هُوَ الّذِي بَشّرَهُ وَفَرّحَهُ بِذَلِكَ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُ يَجُوزُ لِلرّجُلِ أَنْ يَسْأَلَ أَخَاهُ أَنْ يُؤْثِرَهُ بِقُرْبَةٍ مِنْ الْقُرَبِ وَأَنّهُ يَجُوزُ لِلرّجُلِ أَنْ يُؤْثِرَ بِهَا أَخَاهُ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يَجُوزُ الْإِيثَارُ بِالْقُرَبِ لَا يَصِحّ. وَقَدْ آثَرَتْ عَائِشَةُ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ بِدَفْنِهِ فِي بَيْتِهَا جِوَارَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَأَلَهَا عُمَرُ ذَلِكَ فَلَمْ تَكْرَهْ لَهُ السّؤَالَ وَلَا لَهَا الْبَذْلَ وَعَلَى هَذَا، فَإِذَا سَأَلَ الرّجُلُ غَيْرَهُ أَنْ يُؤْثِرَهُ بِمَقَامِهِ فِي الصّفّ الْأَوّلِ لَمْ يُكْرَهُ لَهُ السّؤَالُ وَلَا لِذَلِكَ الْبَذْلُ وَنَظَائِرُهُ. وَمَنْ تَأَمّلَ سِيرَةَ الصّحَابَةِ وَجَدَهُمْ غَيْرَ كَارِهِينَ لِذَلِكَ وَلَا مُمْتَنِعِينَ مِنْهُ وَهَلْ هَذَا إلّا كَرَمٌ وَسَخَاءٌ وَإِيثَارٌ عَلَى النّفْسِ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مَحْبُوبَاتِهَا تَفْرِيحًا لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَتَعْظِيمًا لِقَدْرِهِ وَإِجَابَةً لَهُ إلَى مَا سَأَلَهُ وَتَرْغِيبًا لَهُ فِي الْخَيْرِ وَقَدْ يَكُونُ ثَوَابُ كُلّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ رَاجِحًا عَلَى ثَوَابِ تِلْكَ الْقُرْبَةِ فَيَكُونُ الْمُؤْثِرُ بِهَا مِمّنْ تَاجَرَ فَبَذَلَ قُرْبَةً وَأَخَذَ أَضْعَافَهَا، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُؤْثِرَ صَاحِبُ الْمَاءِ بِمَائِهِ أَنْ يَتَوَضّأَ بِهِ وَيَتَيَمّمَ هُوَ إذَا كَانَ لَابُدّ مِنْ تَيَمّمِ أَحَدِهِمَا، فَآثَرَ أَخَاهُ وَحَازَ فَضِيلَةَ الْإِيثَارِ وَفَضِيلَةَ الطّهْرِ بِالتّرَابِ وَلَا يَمْنَعُ هَذَا كِتَابٌ وَلَا سُنّةٌ وَلَا مَكَارِمُ أَخْلَاقٍ وَعَلَى هَذَا فَإِذَا اشْتَدّ الْعَطَشُ بِجَمَاعَةٍ وَعَايَنُوا التّلَفَ وَمَعَ بَعْضِهِمْ مَاءٌ فَآثَرَ عَلَى نَفْسِهِ وَاسْتَسْلَمَ لِلْمَوْتِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا، وَلَمْ يُقَلْ إنّهُ قَاتِلٌ لِنَفْسِهِ وَلَا أَنّهُ فَعَلَ مُحَرّمًا، بَلْ هَذَا غَايَةُ الْجُودِ وَالسّخَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الْحَشْرَ 9]، وَقَدْ جَرَى هَذَا بِعَيْنِهِ لِجَمَاعَةٍ مِنْ الصّحَابَةِ فِي فُتُوحِ الشّامِ، وَعُدّ ذَلِكَ مِنْ مَنَاقِبِهِمْ وَفَضَائِلِهِمْ وَهَلْ إهْدَاءُ الْقُرَبِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا.

.فصل لَا يَجُوزُ إبْقَاءُ مَوَاضِعِ الشّرْكِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى هَدْمِهَا:

وَمِنْهَا: أَنّهُ لَا يَجُوزُ إبْقَاءُ مَوَاضِعِ الشّرْكِ وَالطّوَاغِيتِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى هَدْمِهَا وَإِبْطَالِهَا يَوْمًا وَاحِدًا، فَإِنّهَا شَعَائِرُ الْكُفْرِ وَالشّرْكِ وَهِيَ أَعْظَمُ الْمُنْكَرَاتِ فَلَا يَجُوزُ الْإِقْرَارُ عَلَيْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ الْبَتّةَ وَهَذَا حُكْمُ الْمَشَاهِدِ الّتِي بُنِيَتْ عَلَى الْقُبُورِ الّتِي اُتّخِذَتْ أَوْثَانًا وَطَوَاغِيتَ تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللّهِ وَالْأَحْجَارُ الّتِي تُقْصَدُ لِلتّعْظِيمِ وَالتّبَرّكِ وَالنّذْرِ وَالتّقْبِيلِ لَا يَجُوزُ إبْقَاءُ شَيْءٍ مِنْهَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إزَالَتِهِ وَكَثِيرٌ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ اللّاتِ وَالْعُزّى، وَمَنَاةَ الثّالِثَةِ الْأُخْرَى، أَوْ أَعْظَمُ شِرْكًا عِنْدَهَا، وَبِهَا، وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَرْبَابِ هَذِهِ الطّوَاغِيتِ يَعْتَقِدُ أَنّهَا تَخْلُقُ وَتَرْزُقُ وَتُمِيتُ وَتُحْيِي، وَإِنّمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ عِنْدَهَا وَبِهَا مَا يَفْعَلُهُ إخْوَانُهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الْيَوْمَ عِنْدَ طَوَاغِيتِهِمْ فَاتّبَعَ هَؤُلَاءِ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ وَسَلَكُوا سَبِيلَهُمْ حَذْوَ الْقُذّةِ بِالْقُذّةِ وَأَخَذُوا مَأْخَذَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ وَغَلَبَ الشّرْكُ عَلَى أَكْثَرِ النّفُوسِ لِظُهُورِ الْجَهْلِ وَخَفَاءِ الْعِلْمِ فَصَارَ الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا، وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا، وَالسّنّةُ بِدْعَةً وَالْبِدْعَةُ سُنّةً وَنَشَأَ فِي ذَلِكَ الصّغِيرُ وَهَرِمَ عَلَيْهِ الْكَبِيرُ وَطُمِسَتْ الْأَعْلَامُ وَاشْتَدّتْ غَرْبَةُ الْإِسْلَامِ وَقَلّ الْعُلَمَاءُ وَغَلَبَ السّفَهَاءُ وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ وَاشْتَدّ الْبَأْسُ وَظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ وَلَكِنْ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعِصَابَةِ الْمُحَمّدِيّةِ بِالْحَقّ قَائِمِينَ وَلِأَهْلِ الشّرْكِ وَالْبِدَعِ مُجَاهِدِينَ إلَى أَنْ يَرِثَ اللّهُ سُبْحَانَهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، وَهُوَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ.

.فصل جَوَازُ صَرْفِ الْأَمْوَالِ الّتِي فِي مَوَاضِعِ الشّرْكِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ:

وَمِنْهَا: جَوَازُ صَرْفِ الْإِمَامِ الْأَمْوَالَ الّتِي تَصِيرُ إلَى هَذِهِ الْمَشَاهِدِ وَالطّوَاغِيتِ فِي الْجِهَادِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ أَمْوَالَ هَذِهِ أَخَذَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمْوَالَ اللّاتِ، وَأَعْطَاهَا لِأَبِي سُفْيَانَ يَتَأَلّفُهُ بِهَا، وَقَضَى مِنْهَا دَيْنَ عُرْوَةَ وَالْأَسْوَدِ وَكَذَلِك يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَهْدِمَ هَذِهِ الْمَشَاهِدَ الّتِي بُنِيَتْ عَلَى الْقُبُورِ الّتِي اُتّخِذَتْ أَوْثَانًا، وَلَهُ أَنْ يُقْطِعَهَا لِلْمُقَاتِلَةِ أَوْ يَبِيعَهَا وَيَسْتَعِينَ بِأَثْمَانِهَا عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِك الْحُكْمُ فِي أَوْقَافِهَا، فَإِنْ وَقَفَهَا، فَالْوَقْفُ عَلَيْهَا بَاطِلٌ وَهُوَ مَالٌ ضَائِعٌ فَيُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنّ الْوَقْفَ لَا يَصِحّ إلّا فِي قُرْبَةٍ وَطَاعَةٍ لِلّهِ وَرَسُولِهِ فَلَا يَصِحّ الْوَقْفُ عَلَى مَشْهَدٍ وَلَا قَبْرٍ يُسْرَجُ عَلَيْهِ وَيُعَظّمُ وَيُنْذَرُ لَهُ وَيُحَجّ إلَيْهِ وَيُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللّهِ وَيُتّخَذُ وَثَنًا مِنْ دُونِهِ وَهَذَا مِمّا لَا يُخَالِفْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمّةِ الْإِسْلَامِ وَمَنْ اتّبَعَ سَبِيلَهُمْ.

.فصل وَادِي وَجّ حَرَمٌ:

وَمِنْهَا: أَنّ وَادِيَ وَجّ- وَهُوَ وَادٍ بِالطّائِفِ- حَرَمٌ يَحْرُمُ صَيْدُهُ وَقَطْعُ شَجَرِهِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ وَالْجُمْهُورُ قَالُوا: لَيْسَ فِي الْبِقَاعِ حَرَمٌ إلّا مَكّةُ وَالْمَدِينَةُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ خَالَفَهُمْ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ، وَقَالَ الشّافِعِيّ- رَحِمَهُ اللّهُ- فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَجّ حَرَمٌ يَحْرُمُ صَيْدُهُ وَشَجَرُهُ وَاحْتَجّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِحَدِيثَيْنِ أَحَدُهُمَا هَذَا الّذِي تَقَدّمَ وَالثّانِي: حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ الزّبِيرِ، عَنْ أَبِيهِ الزّبِيرِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ إنّ صَيْدَ وَجّ وَعِضَاهَهُ حَرَمٌ مُحَرّمٌ لِلّهِ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ يُعْرَفُ بِمُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ إنْسَانٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُرْوَةَ. قَالَ الْبُخَارِيّ فِي تَارِيخِهِ: لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ. قُلْت: وَفِي سَمَاعِ عُرْوَةَ مِنْ أَبِيهِ نَظَرٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ رَآهُ وَاللّهُ أَعْلَمُ.

.فصل بَعْثُ الْمُصَدّقِينَ لِجَلْبِ الصّدَقَاتِ:

صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ وَدَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ بَعَثَ الْمُصَدّقِينَ يَأْخُذُونَ الصّدَقَاتِ مِنْ الْأَعْرَابِ. قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: ثُمّ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُصَدّقِينَ قَالُوا: لَمّا رَأَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هِلَالَ الْمُحَرّمِ سَنَةَ تِسْعٍ بَعَثَ الْمُصَدّقِينَ يُصَدّقُونَ الْعَرَبَ فَبَعَثَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ إلَى بَنِي تَمِيمٍ وَبَعَثَ يَزِيدَ بْنَ الْحُصَيْنِ إلَى أَسْلَمَ وَغِفَارٍ وَبَعَثَ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ الْأَشْهَلِيّ إلَى سُلَيْمٍ وَمُزَيْنَةَ وَبَعَثَ رَافِعَ بْنَ مُكَيْثٍ إلَى جُهَيْنَةَ وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إلَى بَنِي فَزَارَةَ وَبَعَثَ الضّحّاكَ بْنَ سُفْيَانَ إلَى بَنِي كِلَابٍ وَبَعَثَ بِشْرَ بْنَ سُفْيَانَ إلَى بَنِي كَعْبٍ وَبَعَثَ ابْنَ اللّتْبِيّةِ الْأَزْدِيّ إلَى بَنِي ذُبْيَانَ وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُصَدّقِينَ أَنْ يَأْخُذُوا الْعَفْوَ مِنْهُمْ وَيَتَوَقّوْا كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ. قِيلَ وَلَمّا قَدِمَ ابْنُ اللّتْبِيّةِ حَاسَبَهُ وَكَانَ فِي هَذَا حُجّةٌ عَلَى مُحَاسَبَةِ الْعُمّالِ وَالْأُمَنَاءِ فَإِنْ ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُمْ عَزَلَهُمْ وَوَلّى أَمِينًا. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَبَعَثَ الْمُهَاجِرَ بْنَ أَبِي أُمَيّةَ إلَى صَنْعَاءَ فَخَرَجَ عَلَيْهِ الْعَنْسِيّ وَهُوَ بِهَا وَبَعَثَ زِيَادَ بْنَ لَبِيدٍ إلَى حَضْرَمَوْتَ وَبَعَثَ عَدِيّ بْنَ حَاتِمٍ إلَى طَيّئٍ وَبَنِي أَسَدٍ وَبَعَثَ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي حَنْظَلَةَ وَفَرّقَ صَدَقَاتِ بَنِي سَعْدٍ عَلَى رَجُلَيْنِ فَبَعَثَ الزّبْرِقَانَ بْنَ بَدْرٍ عَلَى نَاحِيَةٍ وَقَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ عَلَى نَاحِيَةٍ وَبَعَثَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيّ عَلَى الْبَحْرَيْنِ وَبَعَثَ عَلِيّا- رِضْوَانُ اللّهِ نَجْرَانَ لِيَجْمَعَ صَدَقَاتِهِمْ وَيَقْدَمَ عَلَيْهِ بِجِزْيَتِهِمْ.

.فَصْلٌ فِي السّرَايَا وَالْبُعُوثِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ:

.سَرِيّةُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيّ إلَى بَنِي تَمِيمٍ:

.وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ:

ذِكْرُ سَرِيّةِ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيّ إلَى بَنِي تَمِيمٍ وَذَلِكَ فِي الْمُحَرّمِ مِنْ هَذِهِ السّنَةِ بَعَثَهُ إلَيْهِمْ فِي سَرِيّةِ لِيَغْزُوَهُمْ فِي خَمْسِينَ فَارِسًا لَيْسَ فِيهِمْ مُهَاجِرِيّ وَلَا أَنْصَارِيّ فَكَانَ يَسِيرُ اللّيْلَ وَيَكْمُنُ النّهَارَ فَهَجَمَ عَلَيْهِمْ فِي صَحْرَاءَ وَقَدْ سَرّحُوا مَوَاشِيَهُمْ فَلَمّا رَأَوْا الْجَمْعَ وَلّوْا فَأُخِذَ مِنْهُمْ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ امْرَأَةً وَثَلَاثِينَ صَبِيّا فَسَاقَهُمْ إلَى الْمَدِينَةِ فَأُنْزِلُوا فِي دَارِ رَمْلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ فَقَدِمَ فِيهِمْ عِدّةٌ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ وَالزّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَقَيْسُ بْنُ الْحَارِثِ وَنُعَيْمُ بْنُ سَعْدٍ وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ وَرَبَاحُ بْنُ الْحَارِثِ فَلَمّا رَأَوْا نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيّهُمْ بَكَوْا إلَيْهِمْ فَعَجِلُوا فَجَاءُوا إلَى بَابِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَنَادَوْا: يَا مُحَمّدُ اُخْرُجْ إلَيْنَا فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَقَامَ بِلَالٌ الصّلَاةَ وَتَعَلّقُوا بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُكَلّمُونَهُ فَوَقَفَ مَعَهُمْ ثُمّ مَضَى فَصَلّى الظّهْرَ ثُمّ جَلَسَ فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ فَقَدّمُوا عُطَارِدَ بْنَ حَاجِبٍ فَتَكَلّمَ وَخَطَبَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ فَأَجَابَهُمْ وَأَنْزَلَ اللّهُ فِيهِمْ {إِنّ الّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنّهُمْ صَبَرُوا حَتّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الْحُجُرَاتُ 45] فَرَدّ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْأَسْرَى وَالسّبْيَ فَقَامَ الزّبْرِقَانُ شَاعِرُ بَنِي تَمِيمٍ فَأَنْشَدَ مُفَاخِرًا:
نَحْنُ الْكِرَامُ فَلَا حَيّ يُعَادِلُنَا ** مِنّا الْمُلُوكُ وَفِينَا تُنْصَبُ الْبِيَعُ

وَكَمْ قَسَرْنَا مِنْ الْأَحْيَاءِ كُلّهِمْ ** عِنْدَ النّهَابِ وَفَضْلُ الْعِزّ يُتّبَعُ

وَنَحْنُ يُطْعِمُ عِنْدَ الْقَحْطِ مُطْعِمُنَا ** مِنْ الشّوَاءِ إذَا لَمْ يُؤْنَسْ الْقَزَعُ

بِمَا تَرَى النّاسَ تَأْتِينَا سَرَاتُهُمْ ** مِنْ كُلّ أَرْضٍ هُوِيّا ثُمّ نَصْطَنِعُ

فَنَنْحَرُ الْكُومَ عُبْطًا فِي أَرُومَتِنَا ** لِلنّازِلِينَ إذَا مَا أُنْزِلُوا شَبِعُوا

فَلَا تَرَانَا إلَى حَيّ نُفَاخِرُهُمْ إلّا ** اسْتَفَادُوا فَكَانُوا الرّأْسَ يُقْتَطَع

فَمَنْ يُفَاخِرُنَا فِي ذَاكَ نَعْرِفُهُ ** فَيَرْجِعُ الْقَوْمُ وَالْأَخْبَارُ تُسْتَمَعُ

إنّا أَبَيْنَا وَلَا يَأْبَى لَنَا أَحَدٌ ** إنّا كَذَلِكَ عِنْدَ الْفَخْرِ نَرْتَفِعُ

فَقَامَ شَاعِرُ الْإِسْلَامِ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ فَأَجَابَهُ عَلَى الْبَدِيهَةِ:
إنّ الذّوَائِبَ مِنْ فِهْرٍ وَإِخْوَتِهِمْ ** قَدْ بَيّنُوا سُنّةً لِلنّاسِ تُتّبَعُ

يَرْضَى بِهَا كُلّ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ ** تَقْوَى الْإِلَهَ وَكُلّ الْخَيْرِ مُصْطَنَعُ

قَوْمٌ إذَا حَارَبُوا ضَرّوا عَدُوّهُمُ أَوْ ** حَاوَلُوا النّفْعَ فِي أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا

سَجِيّةٌ تِلْكَ فِيهِمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ ** إنّ الْخَلَائِقَ فَاعْلَمْ شَرّهَا الْبِدَعُ

إنْ كَانُوا فِي النّاسِ سَبّاقُونَ بَعْدَهُمْ ** فَكُلّ سَبْقٍ لِأَدْنَى سَبْقِهِمْ تَبَعٌ

لَا يَرْقَعُ النّاسُ مَا أَوْهَتْ أَكُفّهُمُ ** عِنْدَ الدّفَاعِ وَلَا يُوهُونَ مَا رَقَعُوا

إنْ سَابَقُوا النّاسَ يَوْمًا فَازَ سَبْقُهُمْ ** أَوْ وَزَنُوا أَهْلَ مَجْدٍ بِالنّدَى مَتَعُوا

أَعِفّةٌ ذُكِرَتْ فِي الْوَحِيّ عِفّتُهُمْ ** لَا يَطْبَعُونَ وَلَا يُرْدِيهِمْ الطّمَعُ

لَا يَبْخَلُونَ عَلَى جَارٍ بِفَضْلِهِمْ ** وَلَا يَمَسّهُمْ مِنْ مَطْمَعٍ طَبَعٌ

إذَا نَصَبْنَا لِحَيّ لَمْ نَدِبّ لَهُمْ ** كَمَا يَدِبّ إلَى الْوَحْشِيّةِ الذّرُعُ

نَسْمُوا إذَا الْحَرْبُ نَالَتْنَا مَخَالِبُهَا ** إذَا الزّعَانِفُ مِنْ أَظْفَارِهَا خَشَعُوا

لَا يَفْخَرُونَ إذَا نَالُوا عَدُوّهُمُ ** وَإِنْ أُصِيبُوا فَلَا جَوْرٌ وَلَا هَلَعُ

كَأَنّهُمْ فِي الْوَغَى وَالْمَوْتُ مُكْتَنِعٌ ** أُسْدٌ بِحِلْيَةٍ فِي أَرْسَاغِهَا فَدَعُ

خُذْ مِنْهُمْ مَا أَتَوْا عَفْوًا إذَا غَضِبُوا ** وَلَا يَكُنْ هَمّكَ الْأَمْرَ الّذِي مَنَعُوا

فَإِنّ فِي حَرْبِهِمْ فَاتْرُكْ عَدَاوَتَهُمْ ** شَرّا يُخَاضُ عَلَيْهِ السّمّ وَالسّلَعُ

أَكْرِمْ بِقَوْمٍ رَسُولُ اللّهِ شِيعَتُهُمْ ** إذَا تَفَاوَتَتْ الْأَهْوَاءُ وَالشّيَعُ

أَهْدَى لَهُمْ مِدْحَتِي قَلْبٌ يُوَازِرُهُ ** فِيمَا أَحَبّ لِسَانٌ حَائِكٌ صَنَعُ

فَإِنّهُمْ أَفْضَلُ الْأَحْيَاءِ كُلّهِمْ إنْ ** جَدّ بِالنّاسِ جِدّ الْقَوْلِ أَوْ شَمَعُوا

فَلَمّا فَرَغَ حَسّانُ قَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ إنّ هَذَا الرّجُلَ لَمُؤَتّى لَهُ لَخَطِيبُهُ أَخْطَبُ مِنْ خَطِيبِنَا وَلَشَاعِرُهُ أَشْعَرُ مِنْ شَاعِرِنَا وَلَأَصْوَاتُهُمْ أَعْلَى مِنْ أَصْوَاتِنَا ثُمّ أَسْلَمُوا فَأَجَازَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَحْسَنَ جَوَائِزَهُمْ.